الأحد، 5 فبراير 2012

الكلمة الحرة قوة لا يستهان بها

عائشة عبدالله تريم
كي يطلق العنان لكلمته، يبحث الكاتب عادة عن عالم خالٍ من القيود تتحرر فيه الكلمة، تخرج من غياهب السجون وتحلق في فضاء رحب حيث تلتقي بذواقي الأدب بكل أطيافهم وأشكالهم، لكن الكلمة التي تبدو بسيطة في تركيبها قد تغدو سلاحاً فتاكاً يزرع الخوف في قلوب أكثر الناس شجاعة . وليس كل كلمة مهما كانت منمقة الحروف قادرة على أن تفعل فعلها، فالكلمة المؤثرة هي تلك التي يختارها الكاتب بدقة لتترجم فكرة تجول في رأسه، وتدفع من يتبناها إلى تحويلها إلى فعل .

ولأن للكلمة وقعها وتأثيرها، فقد وضعت كتب كثيرة على محارق التاريخ في الوقت الذي مازال العالم يحتفي بولادة كتب جديدة تقام لأجلها المعارض والمهرجانات .

إن كتبا كثيرة، كانت على مر الزمن سبباً في وقوع خلافات ونزاعات كبيرة بين البشر، وفي إحداث شروخ حتى في المجتمعات الأكثر تماسكاً . أحد تلك الكتب التي وضعت حولها علامات استفهام كثيرة كتاب “كفاحي” الذي سرد فيه الزعيم النازي أدولف هتلر قصة حياته، وتحدث فيه عن طفولته وفكره السياسي . وقد كان الكتاب وثيقة يجد فيها القارىء معلومات عن شخصية معقدة لقائد عرف البشر تجاهه كراهية لم يعرفوها تجاه أي قائد آخر على مر العصور .

يقع الكتاب في 700 صفحة، وكان هتلر قد خط سطوره على مدى أربع سنوات، خلال فترة إقامته في أحد السجون في ولاية بافاريا الألمانية . وانتشر الكتاب في ألمانيا انتشاراً واسعاً، وكان مسؤولو الحزب النازي يقدمونه هدية لأعضاء الحركة بمناسبة زواجهم  . لكن ألمانيا أرادت بعد الحرب العالمية الثانية، أن تزيل رواسب حقبة شنيعة من تاريخها، وتطهر، سمعتها من جرائم القائد النازي البشعة، فحظرت تداول الكتاب على أراضيها، حتى إن ولاية بافاريا التي كانت تحتفظ بحقوق طبع ونشر الكتاب عملت على منع انتشاره خوفاً من تأثيره في الناس وإحياء الفكر النازي العنصري ثانية .

أما في النمسا، فلم يتوقف الأمر على حظر توزيع الكتاب وتداوله بين الناس، بل ذهبت الحكومة إلى أبعد من ذلك فاعتبرت الأيديولوجية النازية جريمة يعاقب عليها القانون ولا يجوز لأحد أن يتبناها . وظل تداول الكتاب في أوروبا عموماً محدوداً جداً .

كتاب “كفاحي” متوفر في بعض البلاد في العالم، ويمكن أن نقرأ منه مقتطفات  إن لم يكن كله- على الإنترنت . ومنذ قرابة عشر سنوات، تمكنت من الحصول على نسخة منه من دار”مارينر بوكس” الأمريكية في نيويورك، اشتريت الكتاب حينها بدافع الفضول، فقد أردت قراءة فلسفة شخصية أدولف هتلر التي جعلت منه مجرماً إلى ذلك الحد .

لدى قراءة الكتاب يشعر المرء أنه أمام سيرة ذاتية لأحد القتلة المحترفين مثل الأمريكي الشهير جون واين غاسي . ففي المقدمة على ما أذكر- يتوجه هتلر بكلامه إلى أفراد الحزب النازي فيقول: “في كتابي هذا، لا أخاطب أناساً غرباء، ولكنني أتوجه إلى الأشخاص الذين ينتمون إلى الحزب بقلوبهم، ويتلهفون عليه لتستنير به عقولهم” .

أظن أن هتلر ما كان ليعترض على حظر كتابه والحد من قراءته التي كانت ستفك رموز لغز شخصيته . وإذا مُنع الناس من قراءة الكتاب، فإن التاريخ لا يلغي الأحداث مهما بلغت بشاعتها . فالتاريخ يعطينا دروساً يمكن أن نستفيد منها في المستقبل . وضحايا نازية هتلر لن يتمنوا حتماً استعادة ذلك التاريخ لو تمكنوا من ذلك . لكن كتاب كفاحي يعتبر وثيقة تاريخية قد تمكننا عند قراءتها وانتقادها بنزاهة ودقة من اكتشاف الفِكَر الكامنة وراء ذلك الجنون .

في الواقع، لم يكن حظر الكتاب عبثياً، بل كان مدروساً تماماً، فانتشاره بين أيدي اليهود قد يؤثر في عقولهم . لأجل ذلك خافت الجاليات اليهودية في أوروبا وارتفعت صرخاتها احتجاجاً على إعادة طباعة وتوزيع الكتاب لأن في ذلك استهزاء بالمشاعر .

إن الخوف من المس بالمشاعر العرقية والدينية أدى إلى حظر كتاب هتلر في الدول الأوروبية كافة، لكن الأمر لم يكن كذلك عندما تم حظر كتاب آيات شيطانية لسلمان رشدي في الهند، بل على العكس، سيطر الحزن على العالم كله . ولو قرأنا بتمعن كلاً من “كفاحي” و”آيات شيطانية” من دون الوقوف عند اسم مؤلفيهما، فسوف نلاحظ أن الكتابين يهاجمان فئة معينة لا بأس بتعدادها من سكان الكرة الأرضية .

في عام ،1988 نشر كتاب “آيات شيطانية” الذي افترى فيه سلمان رشدي على الرسول الكريم كذباً .

شعر المسلمون حول العالم بالإهانة بسبب استهزاء رشدي بدينهم وبمشاعرهم وبتلميحه بأن القرآن من عمل الشيطان وليس منزلاً من عند الله تعالى . ولم يكن كتاب رشدي هجوماً على الإسلام فحسب، بل كان مساساً بقدسية الإسلام وحقيقته، لذا أثار سخطاً كبيراً في العالم الإسلامي، وتم حظره في كل الدول الإسلامية، كما أصدر آية الله الخميني في إيران فتوى بإهدار دم رشدي تم التراجع عنها في ما بعد!!

وظل منع الكتاب قائماً، وتسلح المفكرون في الغرب للدفاع عنه، فقال الكاتب البريطاني روالد دال “كان رشدي يعرف تماماً ما يفعله ولا يمكن تبرير ذلك بطريقة أخرى . إن التشهير قد يجعل أي كتاب فاشل في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً . لكنني أجد هذا الأسلوب مبتذلاً للغاية” .

“آيات شيطانية” هاجم الإسلام والمسلمين في كل بقاع الأرض، لكن الأمة الإسلامية، رغم إجماعها على حظر الكتاب لم تتمكن من إصدار فتوى تمنع تداوله تماماً كما أنها حتى الآن، لم تتمكن من اتخاذ موقف حاسم وموحد بالنسبة لكتاب “كفاحي” الذي مازال محظوراً وما زال الكتاب والقراء مختلفين بشأنه .

لقد كان من المقرر أن يشارك سلمان رشدي في مهرجان جايبور للكتاب خلال الشهر المنصرم، لكنه انسحب بعد الضجة التي أثارها الخبر لدى المسلمين في الهند . واستنكر الكتاب في العالم رد الفعل الذي واجه مشاركة رشدي في المهرجان بينما رأى الشعب الهندي في اعتراضهم نوعاً من حرية التعبير لم يقصد به الإهانة .

“كفاحي” كما “آيات شيطانية” يتضمنان إهانة وتجريحاً واستهزاء بالمشاعر، لكن “كفاحي” حظر من التداول على نطاق واسع بينما ظل كتاب سلمان رشدي رائجاً في العالم، وفوق هذا تهافت الكتاب على مدحه وإبرازه حتى إن ملكة بريطانيا قلدت رشدي في وساماً برتبة لورد!

إذا كان المؤلف يجد صعوبة في فك قيود تكبل كلمته، فإنه لا يجب الاستهانة بالقوة الكامنة في كلمة تملك كامل الحرية في فضاء الأدب، وعلى من يتلقى مثل هذه الكلمة أن يعرف كيف يوجهها وإلا تفجرت وتركت أثراً لا يمحى لسنوات طويلة .

وإذا كان لا بد من السير في طريق الكلمة الحرة القوية، فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما، إمّا أن نفسح لها المجال لتتابع مسيرتها، أو أن نصطدم بها

ليست هناك تعليقات: