أدب



بقلم : ابراهيم الناجم
أقصوصة بعنوان :  طيف 

مجرد طيف ...هذا ما أحسسته ذلك الصباح ، فقد كانت مشاعر الغربة و الضياع تلفني لأغوص في سحابة من الكآبة ، جعلت صدري أضيق ما يكون ، فما كان مني إلا أن خرجت من النافذة ، و حلقت في الجو لدقائق ، غير أن موجات الراديو و هوائيات التلفزيون و اللاسلكي و أجهزة الرادار كانت تضايقني , ..كانت تخترقني و تنقل لي أشياء غريبة و مخيفة و ربما مخزية في بعض الأحيان ، و هو ما جعلني أشعر بدوار شديد فقررت النزول و عندما نظرت إلى الأسفل رأيت العديد من الأشخاص الذين يتدافعون في شارع واحد فقلت في نفسي ما ذا لو قمت بمضايقتهم قليلا ؟ مع أن ذلك لم يكن من طبعي ، لكني في ذلك اليوم قررت أن أكون غريبة الأطوار و استفزازية قدر الإمكان.


كان ذلك الرجل الذي أمام الحانوت و لا تقولوا أي حانوت ؟... ذلك الحانوت الذي في الشارع الذي نظرت إليه من الأعلى و لا أعرف اسمه و لا أين هو ؟ فأنا مجرد طيف و يبدو أني أعرف أشياء لا أعرف كيف و لا من أين عرفتها ؟! المهم أن ذلك الرجل الذي أمام الحانوت ، و الذي لا أعرف إن كنت جئته مصادفة أو عن عمد كان يراقب المارة و خاصة النساء و بالتحديد كان يراقب أرجلهن لعل إحداهن ترفع طرف ملحفتها فيظهر له شئ من هنا أو شئ من هناك من ما تعلمون! ...باستثناء اللواتي يشغله النظر إلى ذلك الإيقاع المنتظم الذي يحركن به أردافهن أثناء السير ، فكانت تتسع عيناه و يرتفع حاجباه ليبدو كالأبله و لا تقولوا إنكم لم تشاهدوا أبله من قبل لأنهم أكثر من أن لا تصادفوهم في حياتكم عشرة أو عشرين فما بالكم بواحد ؟

المهم اقتربت منه مستغلة كوني مجرد طيف ، فهو بالتالي لن يراني ، فأخذت بطرف جفن إحدى عينيه و أخذت أنزله و أرفعه باستمرار مما جعله يضع يده على عينه و يأخذ في البسملة ، و هو ما جعل قريبه ذلك الذي يأتيه من حين لآخر و يشكو له الأيام و حادثاتها و هبوط سعر العملة و ارتفاع الأسعار و بخل أقاربه من المسؤولين و أنه ليست فيهم فائدة و يأخذ في الدعاء على الحكومة من أصغر موظف فيها حتى أكبر موظف حتى يصيبه بالصداع فيلجأ إلى إعطائه بعض المال حتى يتخلص من ثرثرته عفوا ...أعتقد أنني بدأت أتوه في الكلام ، سامحوني ) المهم أن قريبه الذي وصفته لكم وصفا مطولا سأله :ما به ؟ و لما ذا يضع يده على عينه و يظهر كل هذا الجزع ؟ فأخبره بأن جفن عينه أخذ يتحرك وحده ، فرد عليه قائلا :

-
آه تقصد أن عينك ترقص و هذا يعني أنك سوف تفرح قريبا ! فهذا ما يقوله "البيظان" ، ألم تسمع بهذا من قبل ؟

و قد أعجبتني هذه الخرافة ، فأخذت بطرفي جفني صاحبنا و بدأت أرفعهما و أخفضهما باستمرار لعله يحظى بفرحة عارمة .



نقلا عن المشهد الموريتاني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من أجمل شعر المتنبي

واحـر قلــــباه ممــن قلبــه شبــم **** ومن بجسمـي وحـالي عنده سقـم 

مـــا لـي أكتم حبا قد برى جسدي **** وتدعي حب سيف الدولة الأمم 


إن كــــان يجمعــنا حب لغرتــه **** فليت أنا بقدر الحــــب نقتســـم 

قد زرته و سيوف الهند مغمـــدة **** وقد نظرت إليه و السيـوف دم 


فكان أحسن خلــــق الله كلهـــم **** وكـان أحسن مافي الأحسن الشيم 



فوت العــدو الذي يممـــته ظفر **** في طــيه أسف في طـــيه نعــــم 

قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت **** لك المهابــــــة مالا تصنع البهم 

ألزمت نفسك شيــــئا ليس يلزمها ****أن لا يواريـهم بحر و لا علم 

أكلــما رمت جــيشا فانثنى هربا **** تصرفت بك في آثاره الهمــم 

عليك هــــزمهم في كل معتـرك **** و ما عليــك بهم عار إذا انهزموا 

أما ترى ظفرا حلوا سوى ظفر**** تصافحت فيه بيض الهندو اللمم 





يا أعدل الناس إلا في معــاملتي **** فيك الخصام و أنت الخصم والحكم 

أعيذها نظـــرات منك صادقـــة **** أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم 

وما انتفاع اخي الدنيا بناظـــره ****إذا استـــوت عنده الأنوار و الظلم 

سيعلـم الجمع ممن ضم مجلسنا **** باننــي خير من تسعى به قـــــدم 

انا الذي نظر العمى إلى ادبــي **** و أسمعـت كلماتي من به صمــم 

انام ملء جفوني عن شواردها **** ويسهر الخلق جراها و يختصم 

و جـــاهل مده في جهله ضحكي **** حتى اتتــــه يــد فراســة و فم 


ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ






 بقلم : المختار ولد محمد يحيى


 أقصوصة بعنوان : طبول على قارعة الطريق 

          


             طبــول ... على قارعة الطريق       


      علي منصة رصيف الطريق ، وقفت أرى الإخوان من حولي ، وعاطفة قوية تشدني إليهم ، وأمامي بزات سود تمنعني العبور إلى الساحة التي لا تكاد تترائي لي ، وفي زحمة الخلان التي تضم ذاتي ، تحس نفسي الانتماء لهم ، وكلهم ناظر إلى الأمام وماش إلى قدام ، وفمه لا يتوانى عن الكلام ، لا تمنعه أياد القمع ... ، وصرخات إرادة الحرية تلاطف أذني تارة ، وتقرع طبل الحقيقة في ذهني تارة أخرى ، ويتحدث عقلي ولا أسمعه وسط ضجيج الأحلام والأفكار المتعانقة في ما بينها.


وعلى حين غرة تمسني ذاكرتي وتعود بإدراكي إلى أيام خول ، وأشم الدخان الذي أدمنت ، وتقبل بدني الهراوة في موضعها الذي سبق واعتادته ، وأصرخ في وجه النائمين المتشحين بالسواد ، لا ليخففوا وقع الضربات بل لإيقاظهم فالصبح انبلج والليل لون ثيابهم ، ليخلعوه عنهم !... لينزعوه !... ليروا ضوء الحقيقة ! ... إلا أنهم يزيدون من وتيرة التقبيل ... وأعرض عنهم ... وأصد ...! ، لكن لا ينفع الإعراض !، وأروح أجري ... أجري حيث لا أحد خلفي !، وهم من خلفي ... سواد مثل الرداء يغطي الأفق القريب.
كل ما نابني لأني رفضت حبا لمن لا يفيق ، ويريد من يمدحه ، ولا شيء لجمهوره المسالم الرفيق  يفعل ، وكل ذلك لأني من رمى ورقة ضميري في علبة ألعابه السوداء ، ونافحت عنه حين أرادوا إسقاطه خلف زملائه اللئام ، الذين ضاعوا في جلبة زحام الواعين البسطاء ، ومن جادت عقولهم بالوفاء لأرض أبي القاسم وحسن وعمر المختار ...


ما أصعب الهروب من ماض رمادي ، إلى حاضر غامض لا يشبه حاضر الإنعتاق ،المزدهي بلونه الأخضر من قديم ، والذي لطخته حمرة النار ، وحمرة الدماء ، والخراطيش الفارغات ، ونظفته أيادي الجموع الواعية من جديد بعد دهر من الخنوع للعذاب ، صمتا وكتمانا للمصاب.


 كم شتان ما بين الحاضرين ، حاضرنا اكتفى لنفسه بالإصلاح ونقلة للجموع إلى مكان فيه أضواء ...  لا  يريدون الشموع ، فهي تذكرنا بماض تليد ... حيث بطون الفقراء تصدر أصوات صاخبة بموسيقى حزينة ...  الحان الجوع ، المتناغمة مع قطرات الدموع الساقطة من على الصخور فوق الصدور ... هي تذكرهم بسبات في صحرائهم في هاجرة الصيف حيث لا شتاء يأتي بعده الربيع ، ... يريدون أن تحيى العقول بالعمل فلا أدراج توضع فيها إجازتهم ، فلن تترك لأرضة ولا قوارض يحرضها التاريخ القريب .


أقف حين انتهى الشارع المليء بالدخان ، وفي نهايته ضوء الحرية الذي لا نراه إذ يسرقه من عيوننا الرداء الأسود ،وحبنا للحرية حب مقموع ، حبنا : حرية للبوح بما في ضمير الجمع تصعيدا ، فلقد أصبحنا نفيق ، وتغني الجموع نشيد الإصلاح على صوت قبل النائمين ، وفرقعات الدخان ، وتؤذن المساجد معلنة انتهاء قرع الطبول لينسحب الإخوان ويبقى النائمون ، وتأذن المآذن للخلان بقرع الطبول من جديد.