الاثنين، 19 ديسمبر 2011

عبد الرحمن ولد بلاّل رائد للنقد الأدبي الحديث في موريتانيا

الباحث الشيخ ولد سيد عبد الله
هو عبد الرحمن بن بلاّلْ ولد سنة 1338 هـ - 1919 م بدأ دراسته في المحظرة، وقد ذكر في مقابلة معه أنه اطلع على بعض الكتب النقدية كالكامل للمبرد وأدب الكاتب لابن قتيبة، كما اطلع على ديوان امرئ القيس وحسان بن ثابت والمتنبي. مارس التدريس النظامي منذ العام 1958 م في مدن الشرق الموريتاني، حصل على تكوين قضائي في تونس وعاد منها، ليلتحق بعد ذلك بسلك القضاء الذي ظل ممتهنا إياه حتى وفاته عام 1382 هـ - 1963 م .

لقد كان لنا شرف الحصول على مخطوطة مقاله (الثقافة في موريتانيا)، الذي كتبه عام 1959 م في مدينة النعمة (شرق موريتانيا)، أيام تدريسه للغة العربية هناك، ولم يتم نشره، والذي يعتبر أول مقال نقدي يكتب في موريتانيا.

فرغم السجال المتجدد دائما حول بداية الشعر في موريتانيا، إلا أن أحدا لم يتساءل يوما عن الريادة في النقد الحديث عندنا، ذلك النقد الذي حصر البعض بداياته في تلك النقاشات، التي نشرتها جريدة (الشعب) في السبعينات والثمانينات.

ليأتي هذا المقال مجيبا على الاستفهام والتساؤل، بوصفه مقالا نقديا لكاتب موريتاني، حرره قبل سنة من استقلال البلاد، وإن لم يقدمه للنشر آنئذ.

والحق أن هذه المخطوطة تنضح بعدة استنتاجات وتأملات مهمة، بحيث يمكن القول إنها تشكل قطيعة فنية بين النثر التقليدي عند الموريتانيين، والقائم على السجع والتنميق كما في الرسائل والعقود و الاخوانيات.
وبين النثر الأدبي (الحديث)، الذي بدا متحررا من كل خلفية تقليدية، تحصر غايته في وسيلته، بل إنه يصرح بانتمائه للغة الجديدة، وما تعنيه من أفكار تحررية عرفتها الآداب العربية في الخمسينات .

لقد جاء مفعما بروح التمرد على الواقع الأدبي يومها، ومطالبا بتجاوز التقليد ونزع الغشاوة عن العيون.

ذلك أنه ظهر في فترة حرجة من تاريخ الدولة الموريتانية، حيث التحولات الثقافية والسياسية تعصف بالبلاد، لكن دعوة صاحبه اصطدمت بدعوات مناقضة، ترى أنه لا يمكن أحسن من ما هو كائن، والغريب أنها نابعة من شخصيات أدبية، لها واسع الاطلاع على حركات التجديد في الوطن العربي، كما سبق أن نُشرت لها مقالات أدبية، في مجلات عربية خلال الثلاثينات والأربعينات.

وهذا المقال يلي في تاريخ كتابته مع مقال زين العابدين الكتاني الذي نشرته مجلة (رسالة الأديب) المغربية في العددين 4 – 5 من العام 1958 بعنوان (أدب الصحراء) مما يعني أنهما أول مقالان يهتمان بشعر المنطقة في العصر الحديث.

إن هدفنا من نشر هذا المقال، هو تمكين الرجل من حقه في الريادة، وتثبيت حقنا (نحن) في أسبقية اكتشاف هذه المخطوطة، وذلك لكوننا قدمنا منها – ومن غيرها - نسخا لبعض الأساتذه، الذين توسمنا فيهم عدم الاعتراف بذلك الحق.


نص المقال : (الثقافة في موريتانيا) :

لقد شهدت هذه البلاد في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عصرا زاهرا بلغت فيه أقصى التقدم الفكري، والنضج الثقافي، حيث كانت تغص بالمدارس العالية، والنوادي الأدبية، التي تخرج منها أدباء وشعراء، يفوقون جل معاصريهم في العالم العربي، وكان لهؤلاء الأدباء طابعهم الخاص، وهو الطابع العربي الفطري، والذوق السليم، والتعبير البعيد، عن المعاني المستعارة من الخارج، والألفاظ الدخيلة، ولهم الأسلوب السهل الممتنع، إلى جانب الأسلوب ذي التعبير القوي، والمعاني البعيدة، التي لم تكن في متناول الكل، مما يجعل أدبهم يشبه إلى حد بعيد أدب العصر الجاهلي، وذلك لكون موريتانيا، قد ساعدها موقعها الجغرافي النائي، في تخوم الصحراء ومناخها ذو الحرارة المفرطة، على عدم هجرة الأجانب إليها، واختلاط العجم بسكانها، وتجولهم في ربوعها ومساكنها، فبقيت لهجتهم إلى هذا العهد، أقرب لهجة للغة الضاد، بينما تكون لهجات الشعوب العربية كلها فاسدة، وبعيدة جدا عن اللغة الفصحى، كما قد بقيت لغة هذه البلاد الموريتانية – أعني اللغة الكتابية – أقرب شيء كذلك، إلى لغة وأساليب العصور الجاهلية، قبل اختلاط الألسن، وتغلغل العجم في ربوع جزيرة العرب، تلقيا للإسلام ومبادئه، حيث فسدت ملكة اللسان العربي، وارتكزت بواسطة ذلك الامتزاج عادات، أثرت في التفكير والشعور العربيين.

وهكذا ظلت موريتانيا طيلة القرنين السابقين، محتفظة بمكانتها الأدبية في صف العالم العربي، وأما منذ أوائل القرن العشرين، فرغم تمسك موريتانيا بمبادئها الدينية، وعوائدها التقليدية، فقد كاد تيار النهضة الأوروبية يفقدها أدبها القومي، على أنها لم تتزود بعد كما ينبغي من هذه النهضة، التي عمت السهل والوعر، وملكت البر والبحر بثقافة تساير بها ركب العالم العصري، فليس في أبنائها إلا عدد ضئيل، يقل عن عدد الأنامل، وحركات العوامل، حاصل على ثقافة كافية، وشهادات عالية، في اللسان الأجنبي.

غير أنه قد بدأت مخائل التبشير تظهر، باعثة على التفاؤل بتخرج فوج مثقف في هذه البلاد، في المستقبل الأقرب.

وأما الأدب العربي، فإنه رغم اصطدامه بالنهضة المذكورة، لم تزل له جذى تتوقد، يذكيها صدى يتردد، بين بقية من أبناء هذا القطر، بقيت ساهرة على حفظ تراثه ومميزاته القومية، يحسب لها حسابها في الثقافة والأدب العربي .

إلا أن هذا الأدب لم يساير الظروف بعد،ُ فلم يزل الشاعر في القرن العشرين في موريتانيا، مقيدا بالأساليب و التعابير القديمة، المستعملة في العصور الخالية، فتراه – بدلا من وصفه صفير السيارات وأزيز الطائرات، وانبعاث الأشعة منها، والأضواء، وقوة الكهرباء، والمناظر المحيطة به، والبيئة التي يعيش فيها، وتطورات اختراع الفكر الإنساني – لم يزل يصف الناقة والبيداء، ويتأسف أن نأت سلمى وأسماء، منددا بالعذال على الوصال، ومترنما بإلمام طيف الخيال.

وكذلك كانت الثقافة في موريتانيا، حاضرها و غابرها، مقتصرة على الأراجيز، وحفظ كمية وافرة من ذلك، والاطلاع على ما للعرب في مقاماتهم كلها من مقول، حتى يكتسب المثقف ملكة احتذائه حذوهم، ولمثقفي موريتانيا مساجلات شعرية وحروب قلمية مشهورة، إلا أنه لا مجال لهم في الترسل وكتابة القصص، والروايات مجهولة عندهم، فلا يوجد فيهم روائي، ولا قصصي يحكي رواية واقعية، أو خيالية، ولا من يصنف قصة شعبية، يستدل بها على مميزات الشعب، إلا النزر القليل، إن كان هناك نزر قليل .

وأكثرهم – يا للأسف – أجنبي عن اللغة العصرية، التي ساد التعبير بها كل الشعوب العربية، وكثيرا ما وقف ذلك عائقا، دون استفادتهم من الصحف والمجلات، والكتب الجديدة العصرية، بل ودون معرفتهم بالقوانين الإدارية والنظم الاجتماعية، وذلك لبعدهم عن المراكز الثقافية العربية من جهة، وعدم مشاركتهم في أية لغة حية أجنبية من جهة أخرى.

والتخرج من المراكز العربية الكبرى، أو معرفة لغة حية أجنبية، شرط أساسي الآن للمثقف العربي العصري.

وأدباء موريتانيا وإن قاموا بإحياء هذا التراث المجيد، حريون بالإتيان فيه بجديد، ففي كل عصر تحدث أمور، تقتضي أن يتجدد لها شعور، وتطور الاختراع العصري، داعية لتطور الشعور الفكري.

إلا أن هذه فترة، كان من الطبيعي أن تمر بها موريتانيا، كما مرت بها الأمم العربية في تاريخها الحديث، كما كان واقعا أوائل هذا القرن، وأواخر ذاك في الشرق الأوسط والشمال الإفريقي، إلى أن نبغ فيهم أفراد قادوا الأدب العربي، إلى أن تبوأ مقعده بين آداب الشعوب الراقية، مطرزا بالمعاني الحية وموشى بالأساليب المبتكرة.

قال الأديب العراقي :
وأجود الشعر ما يكسوه قائله بوشي ذا العصر لا الخالي من العصر
فعسى أن تصبح موريتانيا في هذا المضمار، ملتحقة بركب شقيقاتها، بعد هذه الفترة الطبيعية .

ليست هناك تعليقات: