السبت، 11 يونيو 2011

ديوان الأستاذ محمدن بن إشدو.. "أغاني الوطن"..


المحامي والشاعر: محمدن بن اشدو
ديوان الأستاذ محمدن بن إشدو.. "أغاني الوطن"..

على امتداد 332 صفحة من القطع المتوسط، وبغلاف ملون رائع متعدد الإيحاءات، صدر عن مطبعة ديوان الكتاب للثقافة والنشر ببيروت ديوان الأستاذ محمدن ابن إيشدو الذي اختار له أن يكون "أغاني الوطن" وخلافا لما يظن ظنون فليست أغاني راقصة مائعة؛ بل هي أغان غالبا ما يعتصرها الأسى، وتجسد المعاناة وتستشرف المستقبل.. أغان تعبر بعمق عن معاناة وطن اختزل في ديوان شعر على طريقة القائل:


أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرته أبصرتني

وإذا أبصرتني أبصرتنا!



يحتوي الديوان زهاء 90 نصا منها العمودي ومنها "شعر التفعلة" الذي يعد الشاعر أول من كتبه من شعراء بلادنا؛ وهي حقيقة ربما لا يعرفها الكثير كما سيأتي.

بعد الإهداء تطالعنا مقدمة كتبها الشاعر النائب أحمدو ولد عبد القادر، اختار لها أن تكون انطباعا عن الديوان وصاحبه ضمنها معلومات قد لا يعرفها شباب اليوم عن الأستاذ إيشدو، وفيها يقول:

"
وعليَّ هنا أن أنبه - إنصافا للحقيقة- عكسا لما نسمع من بعض المحاضرين والأساتذة.. أن تاريخ ميلاد شعر التفعلة المتحرر من القافية، جاء في العام 1971 بكتابة قصيدة "ليلة عند الدرك" من إنتاج معد هذه المقدمة؛ والحقيقة أن الأستاذ إشدو هو الأسبق إلى تجربة هذا النمط في الكتابة الشعرية. وفي هذه المدونة نماذج من تلك النصوص المبكرة جدا؛ بالنظر إلى طبيعة البيئة الثقافية السائدة حتى 1967 – 1968".

يلي تلك المقدمة تمهيد موجز بقلم الشاعر نفسه يقول فيه بتواضع جم:

"
لولا إلحاح بعض، ومساعدة البعض؛ لما وصلت إليك هذه النصوص التي ضاع بعضها.. وكاد الباقي يكون تركة بعدي!

وليس ذلك عن قلى؛ فهي عمري، وديوان لحظة من حياة أهلي ووطني.

بل مرده إلى علاقتي بالشعر؛ فأنا لست شاعرا يستحق شعره النشر، ولم أمتهن الشعر قط.. رغم شغفي به وقرضي له منذ صباي!

يضاف إلى ذلك أن المصير الذي آل إليه الشعر -كغيره من القيم- في بلاد المليون شاعر في عهد الانحطاط! جعلني أبتعد أحيانا عن ساحته الغراء.. أو أجعله -إن نزل- حديث النفس للنفس.. فعلاقتنا -في أغلب الأحيان- علاقة حميمة: من دون الجميع أبثه أحزاني، وأشكو إليه همومي، وأرسم به بعض اللوحات التي أريد لها الخلود".

تتوالى النصوص في صلب الديوان حسب ترتيبها الزمني بدءا من 1964 وانتهاء بـ2003؛ متوزعة بين أبعاد شتى يجمعها كلها الدوران في فلك هذه الربوع من زوايا مختلفة؛ ورغم أنني لا أريد لهذه الانطباعات العفوية عن الديوان أن تكون دراسة مرجعة عنه (بل ولا أجد الوقت لذلك) فإن من الملاحظات التي خرجت بها من غلافه الأيسر:

توزع الديوان بين دوائر متداخلة تمتد من الشخصية إلى الإنسانية مرورا بالوطنية والقومية؛ بحيث قد يتحدث الشاعر عن نفسه أو محيطه الأسري وهو إنما يتخذه ذريعة للحديث عن الوطن كما في "أبوك يبكي الكرامة".. سلوا مرحبا، أطفالنا يتساءلون.. إلخ.

توقد العاطفة عند ما يتعلق الأمر بالنواحي الإنسانية، وعندما يقتنص الخيال الشاعري الجياش فرصة عابرة ليعلن عن نفسه قبل أن تطويه شؤون النضال والتضحية (مناجاة).

الشدة مع المخالف؛ بيد أن الخلاف –دائما في الديوان- خلاف مبادئ أو مواقف وليس خلافا شخصيا.

4ـ التزام الشأن الوطني واستبطانه حتى في النصوص التي يفترض أنها تهتم بالشأن الخارجي، وحتى في التفاصيل الدقيقة التي لا تخلو من طرافة (قصيدة الزيز ومقدمتها النثرية مثلا).

لعل السمة الغالبة على الديوان هي الثورة والتمرد؛ وهو تمرد يبدأ من أول نص في الديوان (رسالة الشباب) ويستمر كذلك حتى أخر جملة منه (حماقات البشر).

وفيما بين البداية والنهاية تتوالى النصوص معربة عن نفسها بنفسها تحمل شحنة فنية ومحتوى سياسيا رافضا للخنوع والركوع والتسليم بالأمر الواقع؛ ولا عجب فالأستاذ إيشدو ناهض ما يراه ظلما أو باطلا على امتداد تاريخ الدولة الموريتانية، وظل مصرا على موقفه دون مهادنة حتى اليوم.



حضور الهم الوطني


رغم أن الديوان في الوطن وله ومن أجله فمن أمثلة النصوص التي يمكن التمثيل بها لهذا الشأن: رسالة الشباب، طابور، لماذا الجيش؟ يا كلمتي، إلى متى؟ يا وطني، ملك الإنسان للإنسان، هذه أرض جدودي، ذكرى المجازر في البطاح، تجكجة المناضلة، المذرذرة المناضلة، يذكرني شروق الشمس، تلمسي..



طابور



ثلاث ساعات تدور..

حول الصخور..

بين القبور..

- "
طابور"!

- "
طابور؟

ـ يا دكتور

طفلي يموت

بباب المستشفى

بدون دواء!

يا للمصير!

أين الضمير؟

أين النصير"؟

***

-"
طابور"!

- "
أمرك يا دكتور".

***

والدكتور

-
من بابه الخلفي-

يدخل العظماء

يدخل الأغنياء

يدخل الأصدقاء

يدخل الأقرباء

يُفحصون..

يُعالَجون..

بالمجان

"
يتسامرون"

..
ويضحكون..

باطمئنان

في أمان

يشربون..

يدخنون..

وينتقدون:

- "
هذه الفوضى"!

-"
هذه الضوضاء"!

- "
هذا الوباء"!

- "
هؤلاء البؤساء"!

- "
هؤلاء الأشقياء"!

- "
إنهم حقا متعِبون"!

- "..
ومتوحشون"!

-"
لماذا يتجمعون"؟

- "
ماذا يريدون"؟

-"
إنهم حقا مضحكون"!

- "
لماذا يعيشون"؟

"
ها.. ها..ها.."

...
ويخرجون!

***

-"
يا دكتور..

طفلي يموت"

- "
انتهى العمل".

- "
ارحمني"

- "
لا أمل..

-
أ.. عودي المساء"

- "
المساء؟

يا للشقاء!

طفلي يموت

بباب المستشفى

بدون دواء..

...
ثلاثة أيام

بدون طعام

بدون منام

وسط الزحام

خلف هذا الباب

أنتظر الدور

لأقابل الدكتور

لأنقذ وحيدي من الممات

لكن هيهات"!

***

...
وتمضي الساعات

كأنها قرون

من جنون!

***

...
وجاء الدكتور!

صاح الجمهور:

ـ "وضع خطير

طفل يموت"

ـ "طابور"!

...
وانطفأ النور!

- "
سنثور"!.


كيفه 1967




تلمسي


 (في السجن الانفرادي في باسكنو)

من عجيب العجيب أن تلمسي

تصبح اليوم ذات شأن بنفسي

ها أنا اليوم في تلمسي أسير

أي عهد بيني وبين تلمسي؟

أين مني عرائس البحر؟ أين الـ
ـگبله مني؟ وأين مسقط رأسي؟

نفحة من عبير تلك الروابي

كيف تغدو هنا رهينة رمس؟!

ووميض من فجرها قد تلالا
كيف يخبو؛ وليلها جد مُغْسِ؟!

ونشيد من "مَاغَجُّوگَه" أصيل

كيف يحلو دون انْتَمَاس وكَرْسِ

***

رب يوم هناك كنت سعيدا

بين إنسي.. وليلة طاب أُنسي
ألثم البدر في الشفاه رحيقا

ملء نفسي؛ وصهوة الشمس كأسي

لا أبالي بحادثات الليالي

أنفق العمر بين جَنْيٍ وَغَرْسِ

أقفرت تلكم الربوع وذلت

بعد عز.. فيومها غير أمس

"
حين غابت بنو أمية عنها

والبهاليل من بني عبد شمس"

"
ذكرتنيهم الخطوب التوالي

ولقد تُذْكِرُ الخطوب.. وتُنسي"





المعاناة والمصابرة



وبما أن الشعر معاناة أولا يكون فإن معاناة الشاعر ورفاقه في النضال تنعكس في طوايا الديون فتتشكل قصائد نابضة بالتأثر والثورة والتمرد؛ كما في: رسالة إلى رفيق، أبوك يبكي الكرامة، رسالة إلى مناضلة، أهديك ألف تحية، لمن المستقبل؟ أطفالنا يتساءلون، في ذمة الحق، أسير أغمات..

وهي معاناة لم يرض صاحبها التخلي عن رجولته تحت أي ظرف حتى في لحظات الضعف الإنساني التي لا تخلو منها الحياة؛ لذا فعند ما رحل والد الشاعر كان الأخير في إقامة جبرية بمسقط رأسه، ثم نفي بعيد ذلك وسجن في حبس انفرادي في مدينة باسكنو وتوفي شقيقه بعد ذلك بقليل لم يتنازل عن رجولته.. بل نراه يقول:

تحملت يوم البين ما لا أطيقه
وكان لنفسي في تحملها عذر



فأنت الذي علمتني الصبر والإبا
وخلفتني ذخرا.. ويمتحن الذخر
ووالله لولا نخوتي وصلابتي
لفاض عليك الدمع.. والشعر والنثر
ولي فتية دون البلوغ، ونسوة

سيشجيهمُ بثي؛ وإن أرعوي بروا



على أنه لا يتجاهل الواقع ولا يحاول ذلك؛ لا تفيض مشاعره أحيانا فيتحرر الدمع من جفونه ويمتزج الخاص بالعام والشخصي بالوطني..



أبي؛ هاج لي ذكراك بيني، وغربتي

وما مس من ضر.. فقد مسنا الضر

جرت أدمعي لما احتضنت محمدا
وكنت عصي الدمع.. شيمتي الصبر
فتى كنت أرجو أن أعيش بقربه

وتأبى صروف الدهر.. والظلم والغدر



وفيما يصطاف المرفهون على الشواطئ وينتجعون المنتزهات ويقيمون في الفنادق الفاخرة، ويهتبل الأدباء منهم والفنانون الفرصة للإبداع.. كان الشاعر صيف 1980 ينتجع على طريقته الخاصة، ولكنه لم يفلت الفرصة دون أن يزودنا بلوحة دقيقة عن مصطافه:



في ذمة الحق أو ليلة دبرانية :



وليلة من ليالي الصيف كالحـة

نادمتها وهي بالصهباء تغريني

رمضاؤها تلتظي تحتي تهدهدني

ورَوْحها - كلهيب الحب- يكويني

ما حيلتي في جحيم لا قرار به؟

فالقبض يخنقني والسدل يشويني!

أسامر النجم؟ قد غالته وطــأتـها

وألبست بدرها ثوبا من الطين

وأصبح الكون قفرا لا حراك بـه

كأنه صخرة في كهف تنين

..
ولت؛ كمثل لُيَيْلات لنا سلفـت

في ذمة الحق؛ أبليها.. وتبليني.

تيشيت؛ يونيو 1980



على أن السجين يتحرر على أنغام موسيقية تنساب إليه عبر الأثير ليجوب الزمان والمكان.. دون الحاجة إلى قرار رسمي أو رشوة سجان أو نحو ذلك..





يثير لواعج البلوى بقلبي
وينكي فيه مندمل الكلوم

ويبنيني ويهدمني.. فأغدو
كما تذرو الرياح من الهشيم!
يحلق بي إلى العلياء طورا
ويهبط تارة تحت التخوم
ويرجعني - وقد جاوزت شوطا
بعيدا- نحو مرتعيَ القديم!
نعيم طفولتي وربيع عمري
وهل بعد الشبيبة من نعيم؟
فأذكر أكعبي وحنان أمي
وأترابي.. وتحصيل العلوم
وفتيانا على عيس عتاق
تجوب "الگبله" في ليل بهيم

تطيع هوى الغواني والأغاني
رعاها الله أياما تولت

وأرضا أقفرت بعد النعيم
وأغدو في تلمسي به طليقا

وكنت بها أسيرا في الجحيم

أحلق - إن شدوت- بألف أرض
وأرفل في ذرى عز صميم

فطورا في الحجاز وأرض نجد

وعذرة.. أو ديار بني تميم

وطورا تَطَّبِي بغداد قلبي
أو اَهرب في دمشق من السموم

وطورا في الرباط أثير عهدا

من الإخلاص والود الحميم

وأسرح تارة في الغرب حرا

أعربد بين قرطبة ونيم
من السجن الانفرادي بباسكنو 1981





المعاناة والمصابرة



وبما أن الشعر معاناة أولا يكون فإن معاناة الشاعر ورفاقه في النضال تنعكس في طوايا الديون فتتشكل قصائد نابضة بالتأثر والثورة والتمرد؛ كما في: رسالة إلى رفيق، أبوك يبكي الكرامة، رسالة إلى مناضلة، أهديك ألف تحية، لمن المستقبل؟ أطفالنا يتساءلون، في ذمة الحق، أسير أغمات..

وهي معاناة لم يرض صاحبها التخلي عن رجولته تحت أي ظرف حتى في لحظات الضعف الإنساني التي لا تخلو منها الحياة؛ لذا فعند ما رحل والد الشاعر كان الأخير في إقامة جبرية بمسقط رأسه، ثم نفي بعيد ذلك وسجن في حبس انفرادي في مدينة باسكنو وتوفي شقيقه بعد ذلك بقليل لم يتنازل عن رجولته.. بل نراه يقول:

تحملت يوم البين ما لا أطيقه
وكان لنفسي في تحملها عذر



فأنت الذي علمتني الصبر والإبا
وخلفتني ذخرا.. ويمتحن الذخر
ووالله لولا نخوتي وصلابتي
لفاض عليك الدمع.. والشعر والنثر
ولي فتية دون البلوغ، ونسوة

سيشجيهمُ بثي؛ وإن أرعوي بروا



على أنه لا يتجاهل الواقع ولا يحاول ذلك؛ لا تفيض مشاعره أحيانا فيتحرر الدمع من جفونه ويمتزج الخاص بالعام والشخصي بالوطني..



أبي؛ هاج لي ذكراك بيني، وغربتي

وما مس من ضر.. فقد مسنا الضر

جرت أدمعي لما احتضنت محمدا
وكنت عصي الدمع.. شيمتي الصبر
فتى كنت أرجو أن أعيش بقربه

وتأبى صروف الدهر.. والظلم والغدر



وفيما يصطاف المرفهون على الشواطئ وينتجعون المنتزهات ويقيمون في الفنادق الفاخرة، ويهتبل الأدباء منهم والفنانون الفرصة للإبداع.. كان الشاعر صيف 1980 ينتجع على طريقته الخاصة، ولكنه لم يفلت الفرصة دون أن يزودنا بلوحة دقيقة عن مصطافه:



في ذمة الحق

أو ليلة دبرانية



وليلة من ليالي الصيف كالحـة

نادمتها وهي بالصهباء تغريني

رمضاؤها تلتظي تحتي تهدهدني

ورَوْحها - كلهيب الحب- يكويني

ما حيلتي في جحيم لا قرار به؟

فالقبض يخنقني والسدل يشويني!

أسامر النجم؟ قد غالته وطــأتـها

وألبست بدرها ثوبا من الطين

وأصبح الكون قفرا لا حراك بـه

كأنه صخرة في كهف تنين

..
ولت؛ كمثل لُيَيْلات لنا سلفـت

في ذمة الحق؛ أبليها.. وتبليني.

تيشيت؛ يونيو 1980



على أن السجين يتحرر على أنغام موسيقية تنساب إليه عبر الأثير ليجوب الزمان والمكان.. دون الحاجة إلى قرار رسمي أو رشوة سجان أو نحو ذلك..



يثير لواعج البلوى بقلبي
وينكي فيه مندمل الكلوم

ويبنيني ويهدمني.. فأغدو
كما تذرو الرياح من الهشيم!
يحلق بي إلى العلياء طورا
ويهبط تارة تحت التخوم
ويرجعني - وقد جاوزت شوطا
بعيدا- نحو مرتعيَ القديم!
نعيم طفولتي وربيع عمري
وهل بعد الشبيبة من نعيم؟
فأذكر أكعبي وحنان أمي
وأترابي.. وتحصيل العلوم
وفتيانا على عيس عتاق
تجوب "الگبله" في ليل بهيم

تطيع هوى الغواني والأغاني
ومكنون المدامة والنديم

رعاها الله أياما تولت

وأرضا أقفرت بعد النعيم
وأغدو في تلمسي به طليقا

وكنت بها أسيرا في الجحيم

أحلق - إن شدوت- بألف أرض
وأرفل في ذرى عز صميم

فطورا في الحجاز وأرض نجد

وعذرة.. أو ديار بني تميم

وطورا تَطَّبِي بغداد قلبي
أو اَهرب في دمشق من السموم

وطورا في الرباط أثير عهدا

من الإخلاص والود الحميم

وأسرح تارة في الغرب حرا

أعربد بين قرطبة ونيم


من السجن الانفرادي بباسكنو 1981



هموم قومية


وللهم القومي حضوره على امتداد الديون؛ بدءا بالنضال من أجل التعريب بعيد استقلال البلاد، مرورا بانقلاب الجزائر الذي أطاح بابن بلة ليتوقف عند هزيمة سبع وستين وما قلب الصهاينة من حقائق للرأي العام الغربي، قبل التعريج على فساد الأنظمة العربية في الذكري الأولى للهزيمة المذكورة، وعدوان إسرائيل على لبنان سنة 1968 ليصل إلى ما عانته منطقة الخليج العربي منذ 1990 فيخصها بعدة قصائد (استقالة عمر، نحن في الدرب رفاق، مهر الصمود، تحية الأرز..) دون أن يطغى الوضع في العراق على الأزمة المزمنة والجرح الدامي في فلسطين (ملائكة في قلب أمريكا، وصية الشهيد محمد الدرة..).



ضربوا الحصار، هل الحصار شريعة؟
ماذا دها الإنسان؟ هل من عاقل؟!

يا قومنا من يسقطون ضحية
من لحمنا؟ أم من سديم آفل؟!

هم من ذوائب يعرب يا بطرس
يا سيد "الجمع" "المهيب" "الفاضل"

قتلوهمُ صبرا، وما من صامت
إلا له قسمات وجه القاتل

"
قوم الصحيفة" لا وجود لمثلهم
ذهب الزمان بهم؛ وما من آكل!

قالوا الكويت؛ فقلت: قلتم حررت!
والصائلون؛ فقلت: ما من صائل!
قالوا: "سلاح دمارهم" قلت: انزعوا
أيضا سلاح عدونا الإسرائلي

قالوا: "حقوق الكرد" قلت: وحقهم
في الترك، أو إيران.. غير مماثل؟!
يا ظالما ملك البرية واحدا
يعطي ويمنع دون حق عادل

هلا اتبعت ذريعة مقبولة

تبقي بصيص مؤمل للآمل؟



حنين جامح



تضمن الديوان قصائد فاضت بالحنين كما في قصيدة "بالأحضان" التي كتبها الشاعر وهو يعود إلى تونس بعد فراق دام ثلاثا وثلاثين سنة حيث استعاد المكان والأشخاص والأحداث.. وكما هي الحال في "سلام على الفيحاء" و"الشرگ" و"هات المدامة".. بل إن المفارقة أن الحنين شده إلى منفاه كما في "گنديگه"..



زعموا أنهم هنا قد نفوني!
كيف أنفى في موطني المحبوب؟
ما لهم بالبلاد علم ولا بي

ليس مثلي هاهنا بغريب!



وداع الراحلين
 


وللرثاء نصيبه في الديوان؛ حيث نجد الشاعر يرثي المرحوم أحمد ولد بوسف ويرثي جدته ووالده، وحين رحلت جدة بنيه وهو في إقامة جبرية بالداخل نجده يؤدي "صلاة الغائب" برثاء صادق الإحساس جمع بين استبطان الآصرة الاجتماعية والزمالة النضالية في استثناء واضح من القاعدة العامة –أو الصورة النمطية- للحماة في الأدب المعاصر، كما نجده يرثي بعض أعلام وقته كالقاضي حامد ابن ببها، ولعل أهم مراثي الديوان طغراء في سجل الذهبي، التي كان ضحايا طائرة الأول من يوليو 1995 باعثيها ولكنها تحولت إلى فخر بأمجاد الماضي وإدانة صارخة للواقع السياسي والاجتماعي المعيش؛ تتخلل ذلك وقفة مع رفاق الدرب وتملي ذكريات الماضي..

فلذات مثل العصافير تهوي
من حماها، أو أطفأ النيرانا؟
لم تجد نجدة وقلبا رحيما
أو مطافي.. ولم تجد طيرانا!
يا هوان الهوان! نبني قصورا
شامخات.. ونهمل الإنسانا!
قد نفذنا جهالة.. ونبذنا

سلطة العلم.. واتبعنا هوانا!

أمة مسلمون نحن؟ لماذا
لا نعزي ونقرأ القرآنا؟!
أمة أغنياء نحن؟ فماذا
قد حصدنا.. وما أفاد غنانا؟
عرب نحن، أم بقايا بقايا
من زوايا.. ونعبد الأوثانا؟!
نتحدى العلوم والتكنولوجيا
برميم يدوسنا.. لو رآنا!
حسنا.. إننا بنوه فماذا
قد أفادته؛ كائنا من كانا؟!
نسرق القمح من عيون اليتامى
والمعالي معطلات ورانا!
لو نمتنا أرومة للزوايا
أو إدوعيش أو بني حسانا
لشجبنا رذيلة.. أو وقفنا

وقفة الحق.. أو صفعنا جبانا



ولقادة حركة 16 مارس 1981 نصيبهم من الديوان رغم أن الشاعر وقتها كان في ضيافة إدارة الأمن!.

وإن كان الهم السياسي مسيطرا على الديوان فمن المنطقي أن يكون للقانون نصيبه -ولو قل- في شعر أحد أبرز الحقوقيين في البلاد؛ لذا نجد نصوصا تنم على مصدرها: أقوى من الدفع، حاشى المحاكم، صرمت حبال وصلك، يد تستحق القطع، وقبل كل ذلك "الحقوق"..

كنت ممن إلى الحقوق يتوق
لا أبارى فيها وفيها أفوق
بيد أني - لسوء حظ زماني-

شغلتني عن الحقوق.. الحقوق!



وللعاطفة نصيبها



تضمن الديوان نصوصا عاطفية تنقل العدوى إلى المتلقي فيتأثر رغما عنه؛ وهي نصوص تمثل استراحات توزعت حسب تواريخها في ديوان سيطرت عليه معاناة الوطن والمواطن والنضال والسجون والتحدي والتمرد والشأن السياسي بشأن عام.. هكذا نجد نصوصا من هذا القبيل، كالحق السليب، ومناجاة، أهواك، بوش الخريف، موسيقى، الوجل الحلو، دليلتي..

ولست أجد تفسيرا للشعور الغامض الذي يهز وجداني كلما تمليت قوله:



إن تولى ربيع حب عفيف
قد جنينا فيه دواني القطوف
وعفا ربع لهونا وهوانا
وعراه المحول بعد الخريف
دمن "انْبَيْكَتْ رَاهَا" أمست يبابا
ولوى "الصَّنْگَه" في فراغ مخيف
طال ليلي - ولم يطل قط ليلي
في رباها- وطال فيها وقوفي
أسكب الدمع والقريض عليها
وأداري محولها بنزيفي
فتعالي عبر الخيال عسانا
نلتقي الآن في رحاب الخفيف
واذكريني اذكريني ثم اذكريني
حق ذكري؛ فلست أنسى أليفي
رب كرب فرجته بأذاني
و"حجابي" عليك و"اتَّفْتِيفِي"
يوم كنا وصحبنا نتهادى
واقتطفنا – يادنيا- بوش الخريف!
ووداعي إياك ليلة بنتم
عن حبيب متيم مشغوف
يا فؤادي.. أفي فؤادك ما بي

من حنين ولوعة وكسوف؟!



وكأي محب صادق فالشاعر قد أحرق المراكب؛ وهو ما يشهد به قوله:



ردي عليك سهام لحظك واسحبي
هذا الدلال.. فلست بالمتذبذب
أغواك ما قد قلته متظاهرا
كذبا عليك.. بأنني لم أعطب؟
والله ما أرسلت سهما واحدا
نحوي وأخطأ في صميم المطلب
فلترحمي قلبا عليلا هاضه
وقع السهام على السهام الخلب
أواه! ما أحلى وصالك - إن جرى
قدر به- وأمر هجرك.. فاعتبي!
أهواك يا دنيا وأدرك أن في
هذا الهوى حتفي وخيبة مأربي
لكنني عفوا أروم وروده
وأذود في حياضه بالمنكب
وأصم آذاني إذا ما لمحوا:
"
ليس المرابط صاحبا للمطرب"!!
مثل الفَراشة حين يطفح عشقها

تصلى لهيب الحب دون تهيب!!.



وأخيرا..



-
لم يخل الديوان من نصوص تسجل أحداثا بذاتها منها –إضافة إلى ما تقدم- ترسيم السبت عطلة أسبوعية وقطع النظام السابق علاقاته مع العراق، ورفع مستوى تمثيله الدبلوماسي مع الصهاينة ومن قبيل رحلة أبوللو9 إلى سطح القمر 1969 ..وغير ذلك.



-
يتجلى ظرف الشاعر ابتعاده عن التصنع والتكلف لمن لم يعرفه عن قرب في بعض محتوى الديوان من قبيل قوله:

تمتع بما تهوى من البدع التي
غزتنا بلا جدوى.. وذرني مع الغجر!

فما أنا ممن يحتسي الماء ثالجا

ولا أنا ممن ينحت الرجل بالحجر!!



كما يتجلى حرصه على الطابع السائد في منطقته الأصلية (إيكيدي) وقيمها الحميدة في قوله:



يا من يعالج في "إگيدي" معتكفا
ما كنت أرغبه فيه وأهواه

وفر عليك عناء البحث عن وطر

لا هو هو ولا دنياك دنياه

لم يبق في العرب العرباء منه شذى

أو "في الزوايا بقايا من بقاياه"!



تبقى الإشارة إلى أن ما بين الديوان دفتي الديوان ليس كل شعر الشاعر؛ فثمة ما لم يرد نشره على ما يبدو، وثمة ما ضاع كما هو واضح في بعض النصوص.. وهو ما برره الشاعر في تمهيده بالقول:

"
وأعترف بأني كدت أكون من النادمين! إذ لم أمتثل [النصائح بجمع مادة الديوان] إلا بعد أن لامست الموت في حادث سير مروع!"..

حفظ الله الأستاذ محمدن ولد إيشدو ووفقه ومتع به.

نقلا عن موقع : وزارة الثقافة والشباب والرياضة الموريتانية.
مهرجان نواكشوط الدولي الأول للشعر.

ليست هناك تعليقات: