د. المختار الجيلاني أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية / جامعة انواكشوط |
"الشعر الموريتاني بين التقليدية والحداثية" [1]
لأن الشعر فن لغوي، ولأنه أشد الفنون اللغوية حساسية تجاه الشحنات الثقافية والإيحائية والانفعالية لموسيقية أصوات اللغة، وشفافية مفرداتها، وتخييلية تراكيبها، فهو الأقدر من ناحية على ملامسة الوجه الإبداعي لها، والأكثر قابلية من ناحية أخرى، لاستقطاب مختلف أنواع الإشارات والخبرات والمعاني الإنسانية التي تتشربها اللغة إلى حد التشبع، من واقع انخراطها الوظيفي في صلب هموم الإنسان وعلاقته بذاته وبعالمه.
لأن للشعر هذه الخصوصية، فقد كان ولم يزل عند كل الشعوب التي تتسم ببروز النزعة الجمالية لديها، وبقدرتها على التجريد والتخيل، والإيمان بالقيم، الفن الأول بامتياز، والأكثر عرضة لالتقاط موجات التأثير، ودمجها واستيعابها لخلق حالة جديدة من الإبداع الإنساني المتوثب؛ إذ لا سبيل لتخصيب اللغة وتوليدها بعيدا عن جدلية التأثير والتأثر.
قدر المجتمع الموريتاني أنه أدمن الشعر فنا مقصودا لذاته، وأداة من أدوات المعرفة والحكمة لا غنى عنها. ومن ثم فإن أي مساس بالعلاقات أو الأنساق الفنية للشعر قد ينطوي – في نظر هذا المجتمع – على نوع من التهديد لعلاقاته وأنساقه المحفوظة. ومن هنا تبرز الأهمية الخاصة لأشكال التأثير التي قد يجد الشعر الموريتاني نفسه عرضة لها من وقت لآخر. وهو ما يسوغ لنا التساؤل:
· ترى ما هي موجات التأثير التي تعرض لها الشعر الموريتاني خلال مسيرته التاريخية؟ ، وإلى أي حد نجح هذا الشعر في استيعاب تلك الموجات ودمجها في كل مرة، في خطاب شعري جديد، فاعل وقادر على التأثير في مجتمعه ومحيطه؟
قد يغرينا التفكير في الإجابة عن السؤال الأول، بمحاولة حصر كل المواد الأدبية المنقولة، من أفكار وأساليب وموضوعات وشذرات أدبية. وهذا قد يتطلب منا الاستعانة "بالبوليس" أحيانا، لأن الأمر هنا قد يلتبس بتهمة السرقة. وقد يقتضي منا اتباع سياسة "مسك الدفاتر لمعرفة من الدائن ومن المدين" على حد تعبير رينيه ويلك. غير الأمر هنا على ما يبدو لا يخرج عن نطاق الشعر العربي؛ ففي موريتانيا لا يوجد طريق عبر البحار لانتقال التأثيرات الأدبية.. كل الآتي يمر عبر الصحراء حتما. كما أن ضخامة الإرث المتراكم عبر العصور لعلاقة التأثر والتأثير الوحيدة الاتجاه هذه، تضع مسعى كهذا في دائرة المحال.
لهذا سنكتفي اليوم بالإشارة إلى موجتين كبيرتين تختصران أهم حلقات الوصل بين الشعراء من أبناء هذه البلاد وغيرهم من شعراء العربية.
الموجة الأولى: التقليدية:
يجمع الدارسون على القبول بأن ما نسميه اليوم شعراً موريتانياً، كان تطور خلال القرنين الهجريين 12 و13 عن أشكال الممارسات النظمية التي دأب الموريتانيون عليها وسيلة لتسهيل حفظ المعارف وتذكرها، ولغايات تعبدية أخرى كالتوسل والابتهال...
والظاهر أن هذا التطور ما كان له أن يتحقق دون الاستناد إلى نموذج شعري أمثل. ولم يك لهذا النموذج إلا أن يتمثل الشعر العربي في أزها عصوره وآثاره الشاخصة.
وهكذا رأينا شعراء القرنين الأولين (18،19م) ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا، يتنكبون في الشعر كل سمت مستحدث، مقبلين على إحياء شكل القصيدة القديمة، مبتعثين أكثر مستويات معجمها عراقة، وأعلا أساليبها حسنا وإحكاما، على أنحاء يصعب معها القول بوجود قطيعة مع التراث الشعري العربي، لكن مع فارق في التوقيت، مؤديه تداخل الازمنة الثقافية في ذهنية الموريتاني عموما – وفقاً لرؤية الدكتور محمد ولد عبدي - لفترة ما ظلت وسائله فيها متواضعة ولا تساعده على كسر حاجز الصحراء والانتصار على الطبيعة، في سبيل خلق حالة من المزامنة الحية، لا على مستوى العصور الأدبية وحسب، ولكن على أصعدة الوعي والفكر والثقافة والإبداع كافة.
على أن الشاعر الموريتاني التقليدي ظل في كل الأحوال وفياً لأرضه، وابناً لمجتمعه، يتمثل قيمه، ويصدر عن أفكاره، ثم يعمل على مضاعفة هذه القيم والأفكار من خلال بنيات العمل الإبداعي ذاتها. وآية ذلك رسوخ مذهب الاتباع في الشعر الموريتاني إلى اليوم، وصموده في وجه هزات رياح الحداثة وما بعدها. وهو ما أعطى لهذا الشعر خصوصيته التي هيأته لتصدير قرض الشعر واحترافه في اتجاه الجوار الأفريقي.
الموجة الثانية: الحداثية:
كان للانفتاح النسبي على العالم العربي إبان الاستقلال أثر بالغ على تطور مفهوم الشعر ووظيفته في موريتانيا؛ فقد أدرك شعراء منتصف الستينيات أن بمقدور الشعر أن يطل من بين القضبان على عوالم أخرى وموضوعات جديدة لم يطرقها شعراء الجاهلية ولا الإسلام. وهكذا كان حتماً على القصيدة العربية في موريتانيا أن يتسع صدرها لاحتضان القضايا الجديدة التي تضيق بها صدور شعراء العصر، وفي طليعتها قضايا الأمة المشتركة الكبرى، المتصلة بالحق والعدل والحرية والتقدم، قبل أن تجد في الفضاءات التي أفسحتها مذاهب الواقعية الاشتراكية والرومانسية والرمزية وغيرها مسوغات جمالية لتجديد الأفكار والموضوعات والأساليب السعرية أكثر فأكثر.
ومن خلف القضبان العالية، أمنياً أحياناً، وفنياً دائماً، لم يجد الشاعر الموريتاني المثقف بدا من الاختيار بين أمرين: فإما الرضى بالوقوف عند حد التجديد في المضامين، وإما المضي قدما نحو تحقيق إرادته في الثورة لانتزاع حقه في الحرية وإن بشكل رمزي. فكان ظهور قصيدة التفعيلة تعبيراً فنياً ومرحلياً عن الخيار الأخير.
وبالرغم من أن نجم الشعر الحر عندما بزغ في موريتانيا متأخراً، كان أعلن عن أفوله في المشرق، فقد مضت سنة محاولات كسر نظام البيت الشعري وشاعت بين كتاب الشعر الموريتانيين، غيرَ عابئة باعتراضات المحافظين، وصيحات المحتجين، وسخرية القراء العاديين المستسلمين لأسر عاداتهم القديمة في تلقي الشعر.
جاءت بداية الحداثة الشعرية في موريتانيا متأخرة أكثر من عقدين من الزمن، قياساً إلى تاريخ ظهور حركة الشعر الحر في العراق، التي تعد اليوم أولى مراحل الحداثة في الشعر العربي عامة. ومع ذلك، فقد جاءت نصوصها متسمة بذات النفحة الرومانسية التي وسمت القصائد الأولى لنازك والسياب. وفي هذا ما يعزز القول بأن استفاقةً جديدةً لعبقرية الشاعر الموريتاني، استطاعت أن تنجح في تقريب فارق التوقيت في وقع الإبداع العربي، وأن تحدَّ من تباين عصوره، من خلال التقاط واع للإشارات الفنية التي صدرت بنبرة عالية عن رواد الحداثة الشعرية في المشرق العربي، ابتغاء إحداث تأثيرٍ إيجابي عميق في المجتمع، قادرٍ على ملامسة كل المستويات والاتجاهات العامة للتصورات ومنظومة المفاهيم المتصلة بالأدبي والفني والثقافي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]ـ قدم د . المختار الجيلاني هذه الورقة في ندوة "الشعر الموريتاني: صورة الصحراء وصدى الأيام" ضمن مهرجان حداء الصحراء للأدب والنشيد، الذي نظمته جمعية المستقبل في الفترة من 25 إلى 28 مايو 2011 بنواكشوط.
نقلا عن شبكة الأدب واللغة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق